"مصنع الحديد من الحلم إلى الواقع: مشروع زين العابدين نقطة تحوّل في تاريخ الوطن"
في بداية عام 2006، على جبال كلب القين ولمهودات، كنت شابًا أعمل في المناجم، وأحمل في صدري غصّة لا تفارقني. لم يكن ذلك الحزن شعورًا فرديًا، بل كان وجعًا مشتركًا بيني وبين كثير من شباب المناجم. كنا نستخرج خامات الحديد بشق الأنفس، تحت الشمس الحارقة وبين الصخور الصلدة، ثم نراها تُحمّل على القوافل والقطارات لتُرسل كما هي إلى الخارج، حيث تُعالج وتُصنّع هناك، بينما تبقى منطقتنا على حالها، تنظر إلى ثروتها وهي تُغادر دون أن تترك وراءها أثرًا من تنمية، أو فرصة عمل مستدامة.
كنا نعرف أن ما نستخرجه ليس مجرد صخور، بل مستقبل ضائع. وكنّا نُدرك أن كل طن من الحديد يغادر دون معالجة، هو فرصة تنموية تُهدر، وخطوة أخرى في مسار التبعية الاقتصادية. ظل هذا الإحساس يرافقنا لسنوات، كجرح مفتوح في جسد الوطن.
واليوم، بعد ما يزيد على عقد ونصف، أسمع ما أعلنه رئيس الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، السيد زين العابدين ولد الشيخ أحمد، من نيّته إنشاء مصنع لتحويل خام الحديد داخل البلاد، فأشعر أن تلك الغصّة بدأت تذوب، وأن الحلم القديم بدأ يلمس عتبة الواقع. لم يكن ما قاله مجرد وعد اقتصادي، بل إعلان عن لحظة مفصلية تُعيد لنا الثقة بأننا قادرون على قلب المعادلة، واستعادة المبادرة.
لطالما كان الحديد الموريتاني شاهدًا على مفارقة مؤلمة: بلد غني بالخامات، لكنه يفتقر إلى أدوات التصنيع. نصدر الثروة خامًا، ونستوردها مصنعّة، فيما تبقى المجتمعات المحلية على هامش التنمية، ويتزايد شعور الشباب بالتهميش والانتظار.
مشروع زين العابدين جاء ليكسر هذا النمط، ويعلن بداية عهد جديد.
إن إنشاء مصنع لتحويل الحديد الخام إلى منتج صناعي عالي القيمة ليس مجرد خطوة اقتصادية، بل هو فعل سيادي، واستعادة للقرار الوطني في إدارة الثروات. إنه إعلان صريح عن دخول موريتانيا عصر السيادة الصناعية، حيث لا يُكتفى بالاستخراج، بل تُستثمر الموارد داخليًا، وتُدار بعقول وطنية وأيادٍ محلية، في إطار رؤية استراتيجية تحوّل كل منجم إلى مشروع تنموي، وكل طن من الحديد إلى لبنة في اقتصاد منتج ومستقل.
الانتقال إلى السيادة الصناعية يعني التحرر من نموذج التصدير الخام الذي جعلنا لعقود نغذي نمو اقتصادات الآخرين، دون أن نقطف ثمار ما نملك. يعني خلق فرص عمل مستدامة، وتطوير المهارات البشرية، وبناء منظومة اقتصادية متكاملة تشمل الصناعة، والتعليم، والبحث، والنقل، والطاقة.
لقد تعثّرت مشاريع مشابهة في السابق، لأسباب تتعلق بنقص الكهرباء وندرة المياه. لكننا اليوم نمتلك إمكانيات هائلة للطاقة الشمسية، ويمكننا تحلية المياه أو نقلها بطرق مبتكرة، إذا ما توفرت الإرادة والرؤية. وهذا ما عبّر عنه زين العابدين في خطابه الواقعي المتزن، الذي لم يغرق في الوعود، بل تحدث بمنطق من يعرف التحديات ويؤمن بإمكانية تجاوزها.
وما يميز مبادرته أنها لم تُطرح بمنطق الربح فقط، بل بلغة وطنية صادقة. لم يكن حديثه موجهًا للمستثمرين وحدهم، بل خاطب الضمير الوطني، وأحيا الأمل في نفوس الذين انتظروا طويلًا أن تصبح ثروات البلاد في خدمة البلاد.
نأمل أن يكون هذا المشروع بداية لتحول أوسع، نحو اقتصاد وطني يملك زمام قراره، ويضيف القيمة إلى موارده، ويعيد توزيع التنمية بشكل أكثر عدلاً. بداية لنهج جديد يعيد رسم الخريطة الاقتصادية في البلاد، ويؤسس لمرحلة تنموية أكثر توازنًا وجرأة.
إنها لحظة مفصلية، وعلى الدولة أن تدعمها بتشريعات محفّزة، وسياسات واضحة، وشراكات مسؤولة. كما أن على النخب والإعلام والمجتمع المدني أن يرافقوا هذا التحول، بالدعم والمساءلة، وبإعلاء المصلحة الوطنية فوق الحسابات الضيقة.
فليكن هذا المشروع علامة فارقة بين زمن تُستنزف فيه ثرواتنا، وزمن تُصنع فيه التنمية من أعماق أرضنا، وتُبنى فيه السيادة على صلب الحديد.
بقلم ابراهيم ولد اعل